روائع مختارة | قطوف إيمانية | عقائد وأفكار | على المدى البعيد ـ2

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
روائع مختارة
الصفحة الرئيسية > روائع مختارة > قطوف إيمانية > عقائد وأفكار > على المدى البعيد ـ2


  على المدى البعيد ـ2
     عدد مرات المشاهدة: 2019        عدد مرات الإرسال: 0

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:

فإن وضع الأمة في بيئة تساعدها على تحسين إنتاجيتها وتحرير طاقاتها وإكتشاف إمكاناتها الحضارية الكامنة، يتطلب أن نعطي لمسائل الأمن والإستقرار والسلام والوئام الإجتماعي جلَّ إهتمامنا وعنايتنا.

حين يضطرب حبل الأمن فإن الفرصة تصبح متاحة لظهور كل أشكال التوحش والهمجية التي إختفت تحت قشرة رقيقة من طلاء الحضارة، وقد دلت شواهد التاريخ ومعطيات الواقع أن أشد الحاجات إلحاحاً تتمثل في إهتداء الناس إلى طريقة ناجحة لإدارة العنف والتوتر الذي ينشأ نتيجة تصادم رغباتهم ومصالحهم، حيث إن اجتماع الناس بعضهم مع بعض على مقدار ما يوفر من المباهج والمسرات والمشاعر الحميمة يوفر إمكانات التناحر والتحارب.

حاجة الناس إلى أن يتعايشوا في إطار نظم وقوانين توضح مبادئ حقوقهم وواجباتهم حاجة ماسَّة، لكن هذه الحاجة لا يمكن تلبيتها في أجواء الحرب الأهلية والتطاحن الاجتماعي.

إن القانون السائد مهما كان غير عادل وغير مكتمل فإنه يظل خيراً من الوضعيات التي لا يحكم فيها أي قانون حيث يتحول المجتمع إلى غابة ليس فيها إلا مفترِس ومفترَس وظالم ومظلوم!.

ليست إدارة العنف داخل المجتمعات بالأمر السلس واليسير، فهذه القضية دوَّخت العالم من أدناه إلى أقصاه، والتقدم الذي تحقق على صعيدها نسبي وغير مرضٍ في معظم الحالات، ولعلي أقف مع هذه المسألة الوقفات التالية:

1= هناك تشوق إنساني عميق إلى ما يمكن أن نسميه تحقيق الذات حيث يتطلع الإنسان إلى أن يؤكد لنفسه وللآخرين قدرته على القيادة والتأثير وإستحقاقه للريادة والتسامي نحو المعالي. وهو في سبيل ذلك مستعد للتضحية والبذل كما أنه مستعد عند الحاجة لتجاوز كل المبادئ والقيم، بل إرتكاب الجرائم إذا إقتضت الضرورة ذلك!.

الأنشطة الروحية والأدبية والتطوعية والإجتماعية تساعد المرء على تحقيق ذاته والكشف عن إمكاناته، فهذا يحقق ما يتطلع إليه عن طريق تأسيس رابطة، وذاك يحققه عن طريق رئاسة جمعية، وثالث يحققه عن طريق الإنخراط في حركة لحماية البيئة وهكذا..، لكن بما أن كل جماعي يؤسس لسلطة جديدة، ويثير حساسية معينة لدى بعض الجهات، فإن هناك رغبة قوية في إبتعاد الناس عن كل الأنشطة الجماعية والحرة مهما كانت نبيلة الأهداف وعظيمة الفوائد والنتائج، ومن هنا فإن إنسداد الآفاق أمام الأنشطة المشار إليها أو تضييقها وإنحسارها إلى حد كبير، دفع بالناس إلى أن يجعلوا تحقيق ذواتهم يتم عن طريق جمع الأموال والثروات وإقتناص الوجاهة وإظهار السيطرة عن طريق التفنن في إنفاقها وإستخدامها.

وبما أن المعروض من المال هو دائماً أقل من المطلوب -حيث لا يملأ فم ابن آدم إلا التراب- فإن منافسة ضارية قد إشتعلت في كل مكان من ديار المسلمين وعلى كل المستويات، وعلى مدار التاريخ كانت المنافسة متصلة بإنحطاط المدنية وسوء الأخلاق، حيث يدفع الحرص على جمع المزيد من المال نحو الكذب والغش والخداع والرشوة والتضحية بالكرامة وإرتهان الذات.. وقد صرتَ تلتقي بأشخاص كثيرين لا ترى فيهم أبداً ما يدل على أنهم يرجون الله والدار الآخرة، أو يقيمون أي إعتبار لمبادئ الإسلام وقيمه! وفقدت الحياة بذلك أجمل معانيها!.

إن إطلاق الأنشطة الروحية والأدبية والتطوعية المختلفة والتحفيز عليها وتيسير سبلها، يخفف إلى حد كبير من الطلب على المال، ويخفف بالتالي من حدة التعانف الأهلي والتوتر الإجتماعي.

وأعتقد أن علينا أن نبتكر في إيجاد الأطر والأوعية والنظم التي تتيح للناس الشعور بتحقيق الذات وإشباع التطلعات على نحو لا يتصل بالمال أو أي إعتبار آخر.

2= لن يتحقق السلام في مجتمعاتنا ولا الأمن ولا الإستقرار ولا الشعور بالإنتماء للوطن ما لم يسُد العدل وتكافؤ الفرص ونفاذ القوانين علي الناس دون إستثناء ودون إعتبار خصوصية لأي كائن كان، والحقيقة أن الإسلام عانى طويلاً مع العرب ومع كل المجتمعات التي تقوم فيها الروابط على أساس العرف والنسب، وكان الهمُّ المسيطر خلال تاريخنا الطويل -على المستوى السياسي والقانوني- هو نقل المجتمعات الإسلامية من مرحلة القبيلة إلى مرحلة الدولة، أي من مرحلة الولاءات والتكتلات وتبادل المنافع على أساس الولادة ومعطيات التاريخ إلى مرحلة الخضوع للأحكام الشرعية والقوانين والنظم السارية، ويجب أن نعترف أنه لم تسجل إختراقات ذات شأن على هذا الصعيد.

وعلى نحو عام فإن النجاحات كانت محدودة جداً وهذا الإخفاق في الإنتقال من مرحلة الدولة كان السبب الجوهري وراء كثير من الفتن والثورات التي كانت تجتاح الأمة في العديد من فتراتها التاريخية، وهو نفسه السبب الكامن خلف سلبية الإنسان المسلم عامة والعربي خاصة تجاه المخاطر المحدقة التي تتعرض لها بعض الأوطان الإسلامية إلى درجة أن يقوم الناس ويحتجوا في الغرب ضد ممارسة حكوماتهم تجاهنا، ونحن سادرون غافلون ومنهمكون في همومنا الشخصية، وكأن الأمر لا يعنينا من قريب أو بعيد!!.

حين سرقت امرأة من بني مخزوم  -فخذٌ من أنبل أفخاذ قريش- أهمّ ذلك قريشاً: كيف تُقطع يدُ مخزومية؟! وقالوا: من يكلَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أسامة بن زيد حبُّ رسول الله؟ فكلّمه أسامة في ذلك، فقال الرسول: أتشفع في حد من حدود الله؟! ثم قام عليه الصلاة والسلام خطيباً في الناس ليعلن لهم مبدأ من أهم المبادئ التي تقوم عليها الأمم والحضارات العظيمة حيث قال: «إنما أهلك من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد!. وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها».

ربما نكون قد قدَّمنا نموذجاً واحداً ثابتاً وشاملاً في مسألة تكافؤ الفرص وإشاعة العدل والتعامل على أساس الكفاءة الشخصية وليس على أي أساس آخر، ذلك النموذج هو ما يتم في تشكيل المنتخبات الوطنية التي تمثل بلاد المسلمين في الألعاب الرياضية الدولية.

هنا يتم تحري الأكفأ والأليق دون حساسيات ودون حسابات خاصة ودون إعتبار لمنافع جانبية، في الأعم الأغلب، وأنت تلاحظ ما يثيره هذا السلوك الجيد من حمية الناس وحماستهم وتعاطفهم حيث ينقلب الشخص غير المكترث بذهاب وطن إلى إنسان مشتعل حماساً إلى درجة لا تُصدَّق بسبب دخول كرة فريقه الوطني في شباك مرمى المنافس!.

وإني لا أشك أن الناس سوف يتفاعلون ويبذلون ويهبّون تجاه كل المسائل الكبرى إذا شعروا أن الأمور تجري فيها على ما ينبغي، ووجدوا الإطار الذي يعبرون من خلاله عن ذلك، فالخير متأصل في النفوس والولاء لأمة الإسلام وللمجتمع الإسلامي ضارب أطنابه في أعماق شخصية المسلم.

الوطنية في جوهرها شعور بشرف الإنتماء لبقعة من الأرض تحكمها نظم وقوانين واحدة، ويجمع الناس الذين يعيشون عليها الإلتزام بمبادئ وقيم موحدة، والسعي إلى أهداف متقاربة ولا معنى للإنتماء إلى أرض لا تتوفر فيها هذه المعاني، وقد قال أحدهم: لماذا أدافع عن وطن لم يؤمّني من خوف، ولم يُطعمني من جوع، ولم يساعدني على إرتجاع حقي المغتصب؟!.

3= يتطلب إستتباب الأمن والشعور بالسلام والإستقرار إحساس الناس بأن لهم نوعاً من المشاركة في إدارة الشأن العام، أما في الأمور اللصيقة بهم، فلا يُتخذ قرار دون موافقة أغلبيتهم عليه‘ وإن قول الله جل وعلا {وأمرهم شورى بينهم} يوضح أن بعد الشورى ليس سياسياً فحسب، وإنما لها أبعاد أخرى: أخلاقية وتربوية وإجتماعية.

على المستوى السياسي من المهم جداً أن يعرف الناس أنهم من خلال الشورى يستطيعون تحقيق ولايتهم على أنفسهم، ويستطيعون أن يثقوا أنهم إذا ابتلوا بحكومة سيئة، فإنهم قادرون على التخلص منها من غير إراقة دماء أو تخريب للمرافق والممتلكات العامة، فالسلم الإجتماعي لا يأتي من خلال الدعوة إليه، وإنما من خلال فتح طرق للتغيير والتطوير والتحسين، تبتعد عن التآمر والقتل والتخريب. إننا أحياناً نمتنع عن إستشارة الناس خوفاً من أن يأتوا بعناصر سيئة تسيء للدين والمصلحة العامة، وهذا الخوف مقدَّر ومعتبر وقد يحدث هذا فعلاً في بعض الأحيان ولاسيما في البدايات أو عند فساد التربية.

لكن هذا لا يشكل القاعدة، فالولاء للدين وللصلاح والكفاءة قوي جداً في الأمة، وفي الإمكان وضع ضوابط تحد من مخاطر هذا الأمر، وعلى كل حال فلن نستطيع أبداً العثور على صيغة في إدارة العنف وتسيير الشأن العام، تخلو من السلبيات أو الأخطاء، ولا بد في سبيل أن تنال بعض الأشياء من أن تخسر أشياء أخرى، هذا هو حال الإنسان الذي يجد نفسه أبداً عاجزاً عن الصدور عن رؤى كلية وبناء تنظيمات وترتيبات كاملة.

إننا في حاجة ماسَّة حتى ننهض ونتخلص من أشكال العنف إلى أن نجعل الشورى تقليداً محترماً في بيوتنا ومدارسنا ودوائرنا ومؤسساتنا وكل مناشط حياتنا، فالقضايا الكبرى تظل قضايا خاسرة ما لم تتصد الأمة لحملها والمساهمة في إنجاحها، وكل حمل يتم خارج رحم الأمة هو أشبه بالحمل الكاذب، لكن الأمة غير مستعدة للتضحية ما لم تشعر أنها تشارك في صنع القرار، وأنها ليست عبارة عن أدوات للتنفيذ فقط، وعلى علمائنا ومفكرينا وخبراء التشريع والقانون فينا أن يبدعوا في إيجاد صيغ تنظيمية تجعل الشورى أسلوب حياة، كما تجعل منها أداة للإصلاح والإرتقاء في إطار الأصول والثوابت التي نؤمن بها.

4= إنني أتساءل دائماً: هل يمكن للأمن والنظام والسلام والاستقرار والتعايش السلمي أن يتم في أي مجتمع من المجتمعات دون وجود تنظيم جيد للنقد والمعارضة وتضارب الرؤى والآراء والاتجاهات؟

ليس من المقبول في اعتبار العقل والشرع أن يقول من شاء ما شاء دون خوف المساءلة القضائية عن صحة ما يقول، ولا أن يفعل الناس ما يعنّ لهم ولو كان ضاراً بالمصلحة العامة. كما أنه ليس من المقبول أن تكمم الأفواه، فلا يتمكن أي أحد من إبداء وجهة نظره في شأن عام، مهما كان رأيه سديداً ورشيداً، فالقرآن الكريم شجّع الناس على ممارسة النقد من خلال معاتبة النبي صلى الله عليه وسلم على بعض اجتهاداته ومعاتبة الصحابة رضوان الله عليهم على بعض ما وقع منهم، حيث يُعد التستر على الأخطاء أكبر مشجع على تكرارها وإستمرارها، وحيث يُعدّ النقد والبحث عن أشكال القصور وأنواع الأخطاء والخطايا من أفضل الوسائل المساعدة على الإصلاح وتخليص الناس من كثير من المشكلات والأزمات ومحاصرة المفاسد والشرور.

إن تراثنا الفقهي لم يستوف التنظير والتعقيد لضوابط النقد والمعارضة وتضارب الآراء على نحو يغنينا عن النظر والإجتهاد، بل إن كثيراً من التفاصيل والحيثيات ما زالت غامضة، وأعتقد أن كثيراً من الاضطرابات الهوجاء والأزمات الخانقة التي مرت بها الأمة كان بسبب التطرف في التعامل مع هذه المسألة، فالحريصون على بقاء كل شيء على ما هو عليه مهما كان غير ملائم وغير صحيح ضيقوا أبواب النقد إلى حد إسكات الناس عن قول أي شيء.

والذين كانوا يشكون من سوء الأحوال كانوا يريدون قلب كل شيء رأساً على عقب بعيداً عن الرفق والتدرج والمجادلة بالتي هي أحسن، وقد آن الأوان لأن تتلاحم الصفوف، وتتشابك الأيدي بين الجميع ومن كل المستويات والمجالات من أجل العمل الدؤوب على إرساء التقاليد وسنّ القوانين وتشييد المؤسسات وإبداع الأفكار التي تنشر الأمن والسلام وحب النظام والالتزام بالأحكام الشرعية والأعراف الصالحة والقوانين السارية، وتساعد في الوقت نفسه على نبذ التعانف والتقاتل واللجوء إلى القوة بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى.

المصدر: موقع د.عبد الكريم بكار.